فلسفة الإيمان بالوجود وعلاقتها بالإسم الله أو الرحمن
- يهدف هذا البحث إلى تقديم قراءة فلسفية قرآنية شاملة لمفهوم الإيمان بالوجود وعلاقته الجوهرية بالإسم الله أو الرحمن، بوصفهما التصور الذهني الذي يمثل المبدأ والمآل في بنية الكون المعرفية والوجودية. ينطلق الباحث من فرضية أن الوجود الإلهي ليس موضوعًا يمكن للعقل المحض أن يُثبت وجوده أو ينفيه ضمن أُطر المنهج التجريبي، لأن الإله في التصور القرآني هو مصدر القوانين وليس موضوعها، وهو المطلق لا يحدّه الزمان أو المكان.
من خلال سبعة محاور مترابطة، يسعى البحث إلى تحليل العلاقة بين المعرفة الفطرية والإدراك العقلي، وبين القانون الكوني والرحمة الإلهية التي تنتظمه ، متتبعًا كيف يعيد القرآن صياغة المفهوم الفلسفي للوجود انطلاقًا من “الأسماء الحسنى”، وبخاصة اسمَي الله والرحمن، باعتبارهما التجلي الكامل للمفهوم التجريدي والمعنى التشخيصي.
- تُظهر الدراسة أن الإيمان بمعنى التصديق والتصور الذهني ليس موقفًا جدليًا بين العقل والمادة، بل هو حالة وعي كوني تنبثق من فطرة الإنسان التي فطره الله عليها (الروم: 30). كما تُبرز العلاقة بين العدم المتوهم والوجود من خلال مفهوم “الصفر المركزي”، الذي يرمز إلى توازن البدايات والنهايات في النسق الإلهي للكون. وفي النهاية يخلص البحث إلى أن الإلحاد المعاصر ليس رفضًا للإله الحق كوجود أو كفكرة ، بل رفضٌ للصوره المشوّهة التي صنعتها الأديان الأرضية، وأن العودة إلى “الرحمن” هي عودة إلى القانون الأعلى للوجود ذاته.
المقدمة الفلسفية
منذ فجر الوعي البشري، ظل سؤال الوجود هو أكثر الأسئلة حضورًا في العقل الإنساني. فقد أدرك الإنسان، في لحظة تأمل وجودية، أن العالم الذي يراه ليس ذاتيًا ولا مكتفيًا بنفسه، بل تحكمه منظومة من القوانين الدقيقة، يستحيل أن تكون وُجدت بالصدفة أو بالمادة العمياء.
لكنّ المعضلة لم تكن في التساؤل عن وجود الخالق، بل في كيفية إدراكه، إذ يقف العقل أمام المطلق موقف العجز، لأن أدواته محدودة بالزمان والمكان، بينما الله هو خالق الزمان والمكان كليهما.
وفي زمن تتصارع فيه التفسيرات العلمية والمادية والدينية، يقدّم هذا البحث رؤية فلسفية مستندة إلى النص القرآني وحده، دون أي مرجعيات بشرية، ليبيّن أن التصديق بالوجود ليس نتاجًا للبرهان، بل تجلٍّ للوعي الفطري الذي أودعه الله في النفس. فالفطرة، كما يعبّر عنها القرآن، هي “البرنامج الإلهي” المزروع في بنية الإنسان منذ الخلق، والذي يوجّه وعيه نحو معرفة خالقه، كما في قوله تعالى:
{ فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّینِ حَنِیفࣰاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَیۡهَاۚ لَا تَبۡدِیلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ }[سُورَةُ الرُّومِ: ٣٠]
تسعى هذه الدراسة إلى استكشاف فلسفة الإيمان من خلال العلاقة الجوهرية بين “الوجود” واسمَي الله “الرحمن”، باعتبارهما المفتاحَين لفهم سرّ الخلق؛ فالوجود تجلٍّ للرحمة، والرحمة هي روح الوجود.
ومن خلال سبعة أربعة محاور تحليلية متكاملة، يتناول البحث: حدود المعرفة، معنى المحال، وحدة الأسماء الإلهية، فلسفة العدم، سبب تشكّل الإلحاد في ضوء الانحراف عن الفطرة.
الفصل الأول: لماذا لا يمكن إثبات أو نفي وجود الله علميًا؟
يُجمع كبار الفلاسفة والمفكرين على أن الوجود الإلهي لا يمكن أن يُثبت أو يُنفى علميًا. فالعلم، بمنهجه التجريبي، قائم على الملاحظة والقياس، أي على ما يمكن إخضاعه للحسّ أو التجربة. غير أن الله في التصور القرآني ليس جزءًا من العالم الطبيعي ليكون موضوعًا للقياس، بل هو الذي أنشأ العالم بكل قوانينه التي تنتظم المادة .
يقول تعالى:
﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ (الرعد: 13).
“شديد المحال” — كما يتأملها الباحث — ليست صفة غضب، بل صفة باستحالة الإحاطة؛ أي إن العقل البشري لا يستطيع أن يُخضع المطلق لقوانينه المحدودة. فالعلم يبحث فيما يمكن ملاحظته، بينما الله هو من جعل الملاحظة ممكنة.
حتى أعظم النظريات العلمية، من النسبية إلى ميكانيكا الكم، تعترف ضمنيًا بأن الكون غير متناهٍ وأن هناك مستويات من الوجود لا يمكن رصدها. وفي هذا الإطار، يصبح العجز عن إثبات الله علميًا دليلًا على سموّه وتعاليه وإطلاقه ، لا على غيابه وعدمه .
وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى:
{ فَاطِرُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَ ٰجࣰا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ أَزۡوَ ٰجࣰا یَذۡرَؤُكُمۡ فِیهِۚ لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءࣱۖ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ }[سُورَةُ الشُّورَىٰ: ١١]
{ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ }[سُورَةُ الأَعۡرَافِ: ٥٤]
أي أن الإله ليس مخلوقًا حتى يُقاس عليه، بل هو الخالق الذي يُدرك كل شيء ولا يُدركه شيء (الأنعام: 103).
من هنا، فإن التصديق والحاجة الداخلية لوجود تلك القدرة العالمة ليس عملية عقلية استنتاجية، بل هو إدراك فطري يلتقي فيه العقل مع الوعي الذي عبر عنه النص بالروح ، لا في إثبات الوجود بل في التسليم.
وحين يتأمل الباحث طبيعة وجوده الإنساني، يدرك أنه محدود بالبنية التي خُلق عليها ؛ فكل ما نعرفه يمر عبر الحواس، والعقل لا يعمل إلا على ما يصل إليه من مدخلاتها. لذلك، فإن إدراك ذات الوجود استحالة فلسفية قبل أن تكون دينية، لأن الله هو الكمال المطلق الذي تنتهي عنده كل الإمكانات. يقول تعالى:
{ قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ (١) ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ (٢) لَمۡ یَلِدۡ وَلَمۡ یُولَدۡ (٣) وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ (٤) }[سُورَةُ الإِخۡلَاصِ: ١-٤]
الأحدية هنا لا تُشير إلى العدد المرقم «1»، بل إلى الوحدة الوجودية الأولى التي يستحيل أن تُقاس بغيرها، لأن كل ما سواها ممكن ومحدود.
وفي قوله تعالى:
{ أَوَلَمۡ یَرَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقࣰا فَفَتَقۡنَـٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ أَفَلَا یُؤۡمِنُونَ }[سُورَةُ الأَنبِيَاءِ: ٣٠]
يشير النص إلى لحظة التكوين الأولى التي انفصل فيها الوجود المادي المتشكل عن وجوده الغير مادي وليس العدمي ، أو بالأحرى، عن الوحدة الكلية التي سبقت الخلق.
هذه “الفتقة الكونية” هي بداية الإدراك الممكن، فقبلها لا يمكن الحديث عن زمان أو مكان أو مادة، أي لا يمكن للعلم أن يتجاوزها. ومن هنا تأتي فلسفة المحال: أن نُحيط بما يحيط بنا.
لقد كان الإنسان منذ القدم يسعى إلى أن “يعرف الله” بالعقل، لكنه كلما تقدّم في العلم، ازداد وعيًا بجهله أمام اللانهاية. قال تعالى:
﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: 85).
فالقصور المعرفي هنا ليس عيبًا في الإنسان، بل نظام فطري يمنع إدراك المطلق حمايةً لجوهر الإيمان والتصديق . لأن المعرفة الكاملة بالله تُلغي معنى الإيمان به من الأساس ، بينما الإيمان الحقيقي هو التسليم بعظمة المجهول الإلهي الوجودي .
الفصل الثاني : الأسماء الإلهية وجدلية (الله) و(الرحمن)، ومنظومة القانون الأكبر
كل الأسماء الإلهية في القرآن الكريم — كالعليم، والقدير، والمهيمن، والعزيز — ليست سوى تجليات لقانون كوني واحد هو “قانون الوجود الأعظم”، الذي يجمع بين الشمول والوحدة. غير أن اسمَي “الله” و“الرحمن” يحتلان في هذا النسق موقعًا ميتافيزيقيًا فريدًا، لأنهما يستوعبان كل الأسماء والصفات، ويشكلان معًا قطبي النظام الكوني: المادة وعلة وجودها .
يقول تعالى:
﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (الإسراء: 110).
هذه الآية ترسم حدود التماثل بين الاسمين من جهة، والتكامل بينهما من جهة أخرى؛ فـ“الله” هو الاسم الجامع الذي يشير إلى الكليّة المطلقة للوجود، بينما “الرحمن” هو اسم الفعل الإلهي الذي يمنح الوجود معناه المشاهد واستمراريته .
فالرحمة المحمولة بالإسم ليست انفعالًا وجدانيًا، بل قانون وجودي به تتوازن القوى، وبه تتحقق إمكانية الحياة والخلق تماما كالرحم الأنثوي الحاضن للبويضة المخصبة .وقد أكد القرآن هذا المعنى بقوله تعالى:
﴿الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طه: 5)،
أي أن النظام الكوني (العرش) قائم على قانون الرحمة، لا على القوة والتسلط الفوضوي أو الصراع، وهو ما ينسف المفهوم الميتافيزيقي القديم القائل بأن الوجود قائم على “الصراع الأبدي” بين القوى المتناقضة.
كل الصفات الإلهية الأخرى — كالقدرة والعلم والحكمة — تندرج ضمن ثنائية “الله الرحمن”، لأن الله هو المصدر، والرحمن هو التجلي الفاعل.
وقد لخّص القرآن هذا المفهوم في قوله تعالى:
﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (طه: 8).
وبهذا تصبح الأسماء الإلهية خريطة وجودية تُظهر كيف تتجلّى الوحدة في التعدد، وكيف تتحد الصفات المتعددة في نسق واحد متكامل، قاعدته الحموضات الوجود الحق الميلاد .
إن الوعي بهذه الجدلية بين “الله” و“الرحمن” يجعل التصديق والإيمان به فعل إدراك كوني لا ينفصل عن العلم، بل يتجاوزه نحو الحكمة. فالمؤمن والمصدق يرى في قوانين الكون صورةً من الرحم الذي يحتضن كل شيء .
لقد كان الإنسان — عبر التاريخ — ميالًا إلى تشبيه الإله بما يعرف، أو تمثيله بصورة حسية تُمكّنه من التواصل معه. لكن هذا الميل، وإن بدا طبيعيًا، يُفضي إلى أخطر أنواع الخطأ المعرفي: تشييء المطلق.
يقول تعالى بجلاء قاطع:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الشورى: 11).
هذه الآية تقطع الطريق على كل تصوّر مادي للإله، وتعيد رسم العلاقة بين الخالق والمخلوق على أساس التعالي التامّ. فالله لا يُدرَك بالحواس، ولا بالعقل الذي صاغته الحواس، لأنهما جزء من عالم الخلق، بينما الله هو الذي أحاط بكل شيء علمًا (الأنعام: 101).
إن اختيار القرآن لصفتي “السمع والبصر” تحديدًا في نهاية الآية له دلالته الفلسفية؛ فهما أداتا الإدراك في الإنسان، وبهما تُكتسب المعرفة. لكنه أي الله ، سمعٌ لا كسمع، وبصرٌ لا كبصر، إذ لا يحدّه اتجاه ولا زمان ولا كم ولا كيف ولا كتلة .قال تعالى:
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ (النحل: 78).
بهذه الآية يُفهم أن الإنسان لا يولد عارفًا، بل يُمنح أدوات المعرفة تدريجًا، وأن معرفته نسبية محدودة، لا يمكن أن تقترب من الإطلاق الإلهي. وإذا كان “الإله قانونًا أعظم متعاليًا عن المثيل”، فهذا يعني أن كل ما يُقاس به يُلغيه. ومن هنا جاءت النهي القرآني عن التشبيه والتجسيد، لأن الله ليس فكرة تُرسم أو تُحدّ، بل مبدأ مطلق يحكم الوجود كله بالحق.
الفصل الثالث : الإيمان والإلحاد بين الوجود والبرنامج والوظيفة
يُخطئ كثير من المفكرين المعاصرين حين يظنون أن الإلحاد هو نقيض الإيمان الذي نعني به التصديق . فالواقع أن الإلحاد — كما يرى الباحث — هو صورة مقلوبة من الإيمان؛ كلاهما ينشأ من السؤال ذاته، لكن الإلحاد يضلّ الطريق عندما يحاول أن يختزل الله في تصور عقلي أو تجربة حسية، فيعجز عن إدراكه فيرفضه.
لقد أشار القرآن الكريم إلى أن وظيفة الرسالات السماوية لم تكن لإثبات وجود الله، بل لتبيين القانون الإلهي الذي ينظم الحياة:
فالمشكلة ليست في وجود الله بل في فهم “وظيفته” في العالم. الإلحاد هو في جوهره رفض لبرنامج الإله في التاريخ، وليس رفضًا لوجوده المطلق. حين يعترض بعض الملاحدة على أحكام قرآنية كالجهاد أو القصاص أو غيرها، فإن اعتراضهم في حقيقته نابع من عدم إدراك البنية الكلية للقانون الإلهي، الذي يربط كل حكم بمقاصده الرحيمة والكونية.
يقول تعالى:
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256)،
﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29).
إن هذا الإقرار بحرية الاعتقاد يؤكد أن الإيمان الذي يعنى به التصديق والقناعة لا يُفرض من الخارج، بل يُولد من الداخل، أي من الفطرة التي فطر الله الناس عليها (الروم: 30).
فحين تنحرف الفطرة، يظهر الإلحاد كعرض مرضيّ روحيّ، لا كبرهان فكريّ. وبهذا الفهم، يصبح الإيمان قانونًا كونيًا يربط الإنسان السوي بمصدره، ويعيده إلى وظيفته في الكون: العبادة عبر المعرفة، والعلم عبر الرحمة.
ومن أكثر المفاهيم التباسًا في الفكر الفلسفي المعاصر مفهوم العدم؛ إذ يخلط كثيرون بين “العدم” و“اللاشيء”، بينما القرآن الكريم يقدّم رؤية مغايرة، تجعل العدم حالة وجودية بالقوة غير متشكلة ، لا نفيًا للوجود بالفعل. فالعدم ليس نفيًا مطلقًا، بل هو سكون الوجود في مركزه الأول؛ أي النقطة التي تتوازن عندها البداية والنهاية، الوجود والمحو، الكثرة والوحدة. أما العدم بمفوم النفي المطلق فهو مجرد توهم إذ لم تكن هناك محطة عدمية لا سابقا ولا لاحقا. يقول تعالى:
﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الحديد: 3).
هذه الآية تمثّل المفتاح الفلسفي لفهم “الصفر الكوني” الذي يتوسط جميع الأبعاد. فالله هو الأول، أي مبدأ الوجود، وهو الآخر، أي غايته، وهو الظاهر في مظاهر الكون، والباطن في سرّه.
من هنا، فإن كل وجود يكتسب معناه فقط في علاقته بـ“الأول والآخر”، أي بالمبدأ والمآل الإلهي.
في الفيزياء الحديثة، يُفهم الصفر بوصفه نقطة التوازن بين القوى المتضادة؛ فلا يمكن أن توجد قيمة موجبة أو سالبة إلا بوجود الصفر الذي يحدّها يتمظهر ذلك في المنظومة الرقمية التي تعتبر اللغة المشتركة الوحيدة بين البشر حيث لايمكن لأي رقم أن يحمل قيمة محتواه من غير وجود الصفر الثابت الذي يأتي الرقم «1» وصفا حقيقيا له .
الخلق، إذن، لم يصدر عن مادة سابقة، بل عن “الوجود المملوء بالقدرة”، وهو ما أطلق عليه الباحث الوجود الصفري، الذي يُمثّل مركز النسق الوجودي.في هذا السياق، لا يمكن القول إن الكون خُلق “من لا شيء”، لأن اللاشيء لا يُنتج شيئًا، بل خُلق من إرادة الوجود التي لا تُرى، والتي تجلّت بالرحمة. وقد استقر في العلم بأن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم. فكما أن الصفر لا يُرى ولايفهم كقيمة ولكنه يُقيم النظام الرقمي كله، فإن الرحمة لا تُرى ولكنها تقيم النسق في النظام الكوني كله. أي هو البوابة التي تعبر منها القدرة الإلهية إلى الوجود، كما أن الموت والهلاك ليس فناءً بل عودة إلى تلك النقطة المركزية التي منها بدأنا وإليها نعود:
{ یَوۡمَ نَطۡوِی ٱلسَّمَاۤءَ كَطَیِّ ٱلسِّجِلِّ لِلۡكُتُبِۚ كَمَا بَدَأۡنَاۤ أَوَّلَ خَلۡقࣲ نُّعِیدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَیۡنَاۤۚ إِنَّا كُنَّا فَـٰعِلِینَ }[سُورَةُ الأَنبِيَاءِ: ١٠٤]
الفصل الرابع : تشوّهات التصوّرات الدينية ودورها في دفع الإنسان نحو الإلحاد
إن الإلحاد في صورته الحديثة لا يُمثّل رفضًا لله بقدر ما يُمثّل رفضًا لصورة الإله التي رسمتها الخطابات الدينية التاريخية. فكثير من الناس لا ينكرون الخالق، بل ينكرون الإله الذي قُدّم لهم على أنه متسلّط أو متناقض أو منفصل عن العدالة والرحمة.
يرى الباحث أن جوهر الأزمة يكمن في انحراف المفهوم الديني عن المفهوم القرآني؛ فالقرآن يقدّم الله بوصفه خالقًا واحدًا للناس جميعًا، وليس إلهًا لفئة دون أخرى، كما قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء: 1).
هذه الوحدة الأصلية تُلغي كل تمايز عرقي أو ديني في الجوهر، وتعيد تعريف العلاقة بين البشر على أساس التقوى والعلم، لا الانتماء أو الشكل، كما قال تعالى:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13).
وحين يفشل الخطاب الديني في تمثيل هذا التوازن، ينفر الإنسان من صورته عن الله، لا من الله ذاته. الإلحاد الحديث هو ردّ فعل على تشوّه الإيمان بالوجود ، لا على الإيمان نفسه.
لقد تحوّل الدين في كثير من المراحل إلى سلطة تُقصي، لا إلى رحمة تحتوي، بينما الله وصف نفسه بأنه الرحمن الرحيم، وجعل رحمته أوسع من كل شيء، ومن هنا فإن علاج الإلحاد لا يكون بالجدل أو الوعظ، بل بإصلاح صورة الله في وعي الإنسان، لتعود إلى أصلها القرآني النقي الذي يجمع بين العدل والرحمة والعقلانية.
الخاتمة؛
بعد هذه الرحلة الفكرية، يمكن القول إن التصديق و الإيمان بالوجود ليس موقفًا ذهنيًا مؤقتًا، بل حالة وعيٍ متجذّرة في البنية الوجودية للإنسان. فالعقل — رغم عظمته — عاجز عن إدراك الله إدراكًا كليًا، لأن الله هو الذي خلق العقل وأحاط به. ومن ثمّ، فإن الإيمان ليس تصديقًا بلا دليل، بل تجاوز للدليل إلى مصدره؛ أي إلى وعي الفطرة التي تعرف الله دون وساطة.
لقد تبيّن أن اسمَي “الله” و“الرحمن” يشكّلان قانون الوجود الأعظم، الذي يحكم العلاقة بين الخالق والمخلوق: فـ“الله” هو المبدأ، و“الرحمن” هو الفعل؛ “الله” هو الوجود المطلق، و“الرحمن” هو الرحم الذي يمنحه المعنى والاستمرار.
وعند التأمل في فلسفة العدم المتوهم ، ندرك أن ما نسميه “العدم” هو وجه آخر للوجود، وأن الصفر ليس فراغًا بل مركز التوازن بين البداية والنهاية.
أما الإلحاد، فهو في جوهره بحث عن الله بطريق مغاير، لكنه يضلّ حين يبحث عنه في المخلوقات لا في نفسه، لأن الله أقرب إليه من حبل الوريد:
{ سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ }[سُورَةُ فُصِّلَتۡ: ٥٣]
{ وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَیۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِیدِ }[سُورَةُ قٓ: ١٦]
{ هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یَعۡلَمُ مَا یَلِجُ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا یَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا یَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَمَا یَعۡرُجُ فِیهَاۖ وَهُوَ مَعَكُمۡ أَیۡنَ مَا كُنتُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ }
[سُورَةُ الحَدِيدِ: ٤]
{ وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَیۡنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَ ٰسِعٌ عَلِیمࣱ }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ١١٥]
وحين يدرك الإنسان هذا القرب والتلازم والمعية بين نفسه والوجود الإلهي ، يتحوّل السؤال عن وجود الله إلى وعيٍ بحضوره، عندها ينقلب الجدل إلى سكون، والبحث إلى شهود. وفي ضوء كل ما سبق، يمكن تلخيص النتائج الأساسية لهذا البحث في النقاط الآتية:
- لا يمكن للعقل أن يُثبت وجود الله أو ينفيه علميًا، لأن الله هو الذي يعلو على العلم ذاته.
- شدة المحال ليست عجزًا معرفيًا، بل تعبير عن عظمة المطلق الإلهي.
- اسمَا “الله” و“الرحمن” يُشكّلان قانون الوجود والرحمة الذي يربط الكل بالواحد.
- الإيمان هو وعي فطري بالانسجام مع القانون الإلهي، لا جدل نظري.
- العدم في المفهوم القرآني ليس نفيًا وفناء مطلقا ، بل مركز التوازن الكوني الذي تتجلّى فيه الأحدية.
- الإلحاد ناتج عن انحراف التصوّرات الدينية عن الأصل القرآني الرحماني.
- العودة إلى الله هي عودة إلى الرحمة، والرحمة هي جوهر الوجود.
وفي ختام هذا المسار التأملي، أستعيد قوله تعالى، وكأنه خلاصة الوعي الإيماني كله:
﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (إبراهيم: 10).
بهذا السؤال الاستفهامي المزلزل، يُعيد الله الإنسان إلى فطرته الأولى، حيث الإيمان والتصديق والقناعة ليست فروضًا وإلزامات جبرية بل حضورًا ووعيا بالنفس فهل تدرك كم كان رحم الأم يقوم بدوره نحوك وأنت بداخله تتخلق وتتشكل من نطفة وعلقة ومضغة مخلقة إلى أن خرجت منه طفلا ؟ فما بالك بالرحم الكوني الوجودي
